إبداع الفـتـاح في تصريف الريـاح (2)

أنماط الرياح في القرآن الكريم:
قبل أن نتحدث في النواحي العلمية- كما تشرحها كتب الأرصاد الجوية- في “تصريف الرياح”, نسوق وجهة نظر نفر من غير المفسرين حول مفهوم تصريف أنماط الرياح الواردة في القرآن الكريم, فتصريف “الريـــح الطيبة” – من وجهة نظرهم – هو توزيعها لتحريك السفن (الفلك), وتشير إليه الآية الكريمة: “هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ …{22}” [سورة يونس] …
وتصريف “الريــــح القاصف” هو تحريكها وسوقها لتدمير السفن التجارية والبوارج البحرية, فهى تقصف ما تمرّ به وتدمره, وتشير إليه الآية الكريمة: “ … فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً{69}” [سورة الإسراء]…
وتصريف “الريـــح العاصف” هو تحريكها لتدمر الممتلكات, لأنها شديدة الهبوب, وتشير إليه الآية الكريمة: “مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ{18}” [سورة إبراهيم]...
وتصريف “الريــح الهاوية” هو تحريكها لرفع الأثقال وإلقائها في مكان بعيد عن موقعها, ويدخل في هذه الأثقال الإنسان ذاته, وتشير إليه الآية الكريمة: ” … وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ{31}” [سورة الحج] …
وتصريف “الريـــح الساكنة” هو سكونها الذي يترتب عليه توقف حركة أمواج البحر فتقف السفن التي لا محركات لها, وتشير إليه الآية الكريمة: “إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ{33}” [سورة الشورى]…
وتصريف “الريـــاح اللواقح” هو تحريكها لحمل السحب وتلقيحها بنوى التكاتف، وكذلك تلقيح النباتات بنقل أعضائها الذكرية من النباتات المذكرة إلى الأعضاء الأنثوية في النباتات المؤنثة, وتشير إليه الآية الكريمة: “وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ{22}” [سورة الحجر]…
وتصريف “الريـــح العقيم” هو تحريكها لإهلاك المزروعات قبل نموها ونضح ثمارها, وهى في الظاهر لا خير فيها, وتشير إليه الآية الكريمة: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ{41} [سورة الذاريات]…
وتصريف “الريـــح الصرّ” هو تحريكها لسوق البرد الشديد المحرق للمزروعات, وتشير إليه الآية الكريمة: ” مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ…{117}” [سورة آل عمران]…
وتصريف “الريــح المصفر” هو تحريكها للهبوب على المزروعات الخضراء لإمراضها وتحويل لونها إلى الأصفر, وتشير إليه الآية الكريمة: “وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ{51}” [سورة الروم]…
وتصريف “الريــح الصرصر” هو تحريكها لتهب على هيئة صيحة مفزعة تصيب الكافرين المعاندين للرسل والأنبياء, وتشير إليه الآية الكريمة: “فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا …{16}” [سورة فصلت]... هذا, وإن كان في هذا المفهوم بعض الصحة, إلا أنه ليس بالصحيح التام من المنظور العلمي الذي سنوضحه في السطور التالية…
“تصريف الرياح” في منظور علم الأرصاد:
من المعروف أن الكرة الأرضية ذات سطح منحن, وبالتالي فإن أشعة الشمس حين تسقط عليها تؤثر بدرجات متفاوتة في مناطقها المختلفة, وذلك لاختلاف زوايا ميل الأشعة أثناء سقوطها … فالمناطق الاستوائية تسخن بشدة لأن أشعة الشمس تسقط عمودية عليها, ويتدرج ميل هذه الأشعة حتى يصل إلى درجة كبيرة له عند القطبين (القطب الشمالي والقطب الجنوبي), ولذلك نجد المناطق القطبية باردة، بل ولا تصل أشعة الشمس إلى القطبين خلال فصل الشتاء…
أما “الريح” – من الناحية العلمية- فيعرّفها علماء الأرصاد الجوية بأنها هواء متحرك على سطح الأرض, وقد تكون لطيفة هادئة لا يشعر الإنسان بمرورها, وقد تكون سريعة عنيفة تقلع الأشجار في طريقها وتدمر المباني والمنشآت وتهلك المزروعات، فتتسبب في حدوث فيضانات غامرة وكوارث عديدة… وتهبّ الرياح من مناطق الضغط المرتفع إلى مناطق الضغط المنخفض, هبوبا غير مباشر, بل تدور حولها متأثرة بحركة الكرة الأرضية حول نفسها من الغرب إلى الشرق… وتسمى الرياح بأسماء الجهات التي تهب منها, فهناك الرياح الشرقية التي تهب من الشرق باتجاه الغرب, وهناك الرياح الشمالية التي تهب من الشمال باتجاه الجنوب, وهناك رياح غير هذه وتلك…
ولكي نفهم المقصود بـ “الدورة العامة للرياح”, يجب أن نعلم اتجاهات حركة الرياح وتقدمها, فكثافة الهواء الساخن أقل من كثافة الهواء البارد, والهواء الساخن يرتفع إلى الأعلى على هيئة تيارات هوائية, ومن هنا ينشأ منخفض جوي (Depression) في منطقة قريبة من خط الاستواء تسمى “منطقة الركود” أو “الرهو” (The Stratopause)... ثم يبرد هذا الهواء الساخن تدريجيا وينتشر متجها نحو الشمال والجنوب, وحول خط عرض 30 شمالا وخط عرض 40 جنوبا, ولذا يلاحظ هبوب تيارات هوائية باردة تسخن كلما هبطت إلى الأسفل, حتى يتكون منها مرتفعان جويّان للهواء ذي الضغط المرتفع, يسميان “ركاب الخيل”، أو “عروض الخيل”.
تهبّ الرياح التجارية (The Trades) من مناطق “ركاب الخيل” إلى خط الاستواء, بينما تهبّ الرياح الغربية (The Westerlies) إلى المناطق القطبية الشمالية والجنوبية… وعندما تتقابل الرياح الغربية الساخنة الخفيفة مع الرياح الشرقية الباردة الثقيلة (التي تهبّ من المناطق القطبية على طول الجبهة القطبية) وتختلطان, تتولد منها منخفضات جوية… وتندفع الرياح عادة من مناطق الضغط المرتفع إلى مناطق الضغط المنخفض… ولما كانت الأرض تدور حول نفسها, فإن غلافها الجوي يدور معها, وهذا ما يجعل الرياح تلف وتدور أثناء حركتها… ففي نصف الكرة الأرضية الشمالية تدور الرياح في اتجاه عقارب الساعة, ولكنها تدور في اتجاه مضاد في نصف الكرة الأرضية الجنوبي .
وفي الدورة العامة للرياح (أيْ توزيعها أو تصريفها) تؤدي “الانخفاضات العرضية” دورا مهما في حالة الجو السائدة بالمناطق المعتدلة, كحوض البحر المتوسط وأوروبا. ويعرّف علماء الأرصاد الجوية “الانخفاض العرضي” بأنه جزء من الجو متميز بانخفاض كبير يتسبب في حدوث ذبذبة في الضغط تفوق سعتها غالبا سعة التغيرات السنوية. ولكن هذا الانخفاض لا يثبت بعد تكوينه في مكان واحد إلاّ نادرا, وهو يسير غالبا من الغرب إلى الشرق (في نصف الكرة الشمالي), ويتسبب في حدوث تقلبات جوية أثناء سيره…
وتحدث هذه الدورة العامة للرياح فوق قطاعات كبيرة من سطح الأرض, وتسمى هذه الرياح “الرياح السائدة”, وهى تتوزع كما أشرنا بناءً على اختلافات خطوط العرض. أما “الرياح التجارية” فسميت هكذا لاعتماد التجّار عليها قديما في إبحار السفن التجارية (الشراعية), وأما “عروض الخيل” فسميت هكذا لأن عددا كبيرا من الخيول قد نفق على ظهر سفينة شراعية توقفت ذات مرة عن الحركة فيها, وذلك بسبب الضعف الشديد للرياح .
وإضافة إلى الدورة العامة للرياح, هناك دورات نسبية, وأخرى محلية. فالدورات النسبية للرياح هى حركات الهواء حول مناطق صغيرة ذات ضغط مرتفع وضغط منخفض, ويتدفق فيها الهواء نحو المناطق ذات الضغط المنخفض, فتحدث الأعاصير, إلاّ أن مناطق الضغط المرتفع ومناطق الضغط المنخفض تتحرك مع الرياح السائدة, وعندما تمرّ هذه المناطق ببقعة معينة على سطح الأرض يتغير اتجاه الريح فيها…
وأما الدورة المحلية للرياح فتحدث في مناطق معينة, وعلى مساحات محددة ومحدودة من سطح الأرض. ومن الجدير بالذكر القول بأن الرياح التي تتولد عن تسخين سطح الأرض خلال فصل الصيف وتبريدها, تسمى “الرياح الموسمية” (Mansoons), وهى تهبّ من المحيط صيفا, ولكنها تهب باتجاه المحيط شتاءً. ومن أمثلتها الرياح الموسمية التي تغير من مناخ قارة آسيا, فتجعل الصيف حارا والشتاء باردا. كما أن هناك رياح محلية دافئة جافة تهب على أحد جوانب الجبال, ويسمونها “رياح الشينوك” في غربي الولايات المتحدة الأمريكية, ويسمونها في أوربا “رياح الفونة الدافئة الجافة”… ومن أمثلة الرياح المحلية الشهيرة: رياح هرمتان. رياح سيروكو, رياح السموم, الهبوب, الخماسين…
و”الخماســـين” من أشهر الرياح المعروفة في الشرق الأوسط , وهى رياح محملة بالأتربة والرمال, وتسود خلال فترة العواصف الحارة, ويرجع حدوثها إلى وجود جهة مدارية تتكون عليها انخفاضات عرضية في فصل الربيع. ويعرف الهواء الموجود جنوبها بالخماسين, وهو ساخن, وقد تصل هذه الرياح إلى بحر البلطيق شمالا. وربما وصلت الأضرار التي تحدثها هذه الرياح إلى إهلاك الحرث والنسل.
ويمثل نسيم البحر (Sea breeze) دورة رياح محلية تنتج من فروق أفقية كبيرة المدى في درجة الحرارة، كالتي تحدث على الفواصل بين البحر والأرض، حيث يسخن الهواء فوق سطح الأرض، ويرتفع إلى الأعلى، بينما ينساب الهواء الأبرد نسبيا من فوق سطح البحر إلى داخل اليابسة، ويحل محل الهواء الساخن المرتفع فوق سطح الأرض، فتتولد عنه دورة أفقية، يمكنها توليد خطوط من سُحُب الحمْل بطول شاطئ البحر…
وبعد, فإن كل دورة من دورات الرياح, عامة أو نسبية أو محلية، تتم وفق نظام دقيق, وليس للعشوائية أو الصدفة أىّ دخل في دورانها، وحتى الزوابع والعواصف الهوجاء، تحدث وفق نظام دقيق على سطح الأرض, وتبعا لنواميس وقوانين وضعها الله تعالى, وقد وصفها القرآن الكريم وصفا دقيقا بالمصطلح “تصريف الرياح”، ولم يقل (صرف الرياح)، لأن تحريكها وتوزيعها وتصريفها إنما هو بمشيئة خالقها العليم الحكيم… فبقدرته يتمّ تصريفها، وبعلمه يتمّ توجيهها، وبحكمته يؤدي كل أنواع الرياح مهامها على سطح كوكبنا الأرضي…
ونختم بعبارات طيبة ذكرها إسماعيل حقي (في تفسيره “روح البيان”) عند تفسيره لآية تصريف الرياح في الآية (5) من سورة الجاثية: لعل سرّ تخصيص العقل بهذا المقام وتأخيره عن الإيمان (المذكور في الآية 3) والإيقان (المذكور في الآية 4) أن هذه الآية دائرة بين علوي وسفلي وما بينهما، وللعقل مدخل لتعقل كل ذلك واشتراك بين الإيمان والإيقان، فافهم جيدا. وفيه إشارة إلى أن الله تعالى جعل العلوم الدينية كسبية مُصحَّحة بالدلائل، ووهبية محققة بالشواهد، فمن لم يستبصر بهما زلت قدمه عن الصراط المستقيم، ووقع في عذاب الجحيم، فاليوم في الحيرة والتقليد، وفى الآخرة في الوعيد بالتخليد…
جعلنا الله وإياكم من أهل الدلائل والشواهد، وعصمنا من عمى كل منكر جاحد، إنه هو الفرد الواحد… والله تعالى أعلى وأعلم…


الوسوم:


مقالات ذات صلة